جريدة بلدنا
بات أهل الجزيرة يطلقون على مدنهم «مدن الوحل»، ولعل هذا التوصيف أدقّ ما يمكن أن ينبئ عن حال هذه المدن في فصل الشتاء، والقارئ لحال مدينة القامشلي ليس كالمقيم في تفاصيل طينها.
يبشّر سقوطُ الأمطار في أيِّ مكان بالخير، ويَعِد بمواسم وغلال وفيرة، ولا سيما في منطقة الجزيرة، على اعتبار أنها منطقة زراعية، فهي سلّة الغذاء السّوري، الأمر الذي يجعل معظم أبنائها يترقَّبون السّماء في الصباح والمساء،
لعلّها تسعفهم بوافر أمطارها، وتخفّف عنهم وطأة سنوات الجفاف، لكنّ لهذه الأمطار في المدن دور الروائي، وفق طينها ووحلها، وما تُحدثه وتتركه في شوارع القامشلي وحاراتها من طين وتراب ووحل، في ظلِّ تردٍّ للواقع الخدمي في المنطقة الشرقية ومدنها جمعاء أصلاً، وخاصة في مدينة القامشلي ذات النصف مليون نسمة، والـ30 حياً سكنياً، حيث تطغى على تلك الأحياء جداول الطين والوحل والمستنقعات، فيراقب الجزراويون مدى قدرة شوارع أحيائهم على تصريف مياه هذه الأمطار؛ برك وجداول تسير وفق مستويات الأرض، يبقى بعضها ليجف وحده صيفاً.
الخدمات السّيئة لمعظم هذه الشوارع تحوِّل القامشلي إلى مدينة من عصر الأوحال والطين، ولا يقتصر الوضع على القامشلي، لتكون مدن عامودا والمالكية ورأس العين والدرباسية والقحطانية ومعبدة بالتوصيف ذاته والحالة ذاتها إن لم يكن الأمر أسوأ.
قصص وحكايا الطين
رغم ما تحمله الأمطار من معاني الخير والعطاء، تصبح في المدن غير المخدمة وبالاً ومشكلة، لاسيما إذا كان المقياس لديهم مدى قدرة شوارع أحيائهم على تصريف مياه هذه الأمطار، وما ستحدثه هذه الأمطار من استعصاءات وإغلاق لشوارع وأرصفة وتجمّعات مطرية تبقى حتى الصيف بركاً للبعوض والذباب وتراكم القمامة، ورغم أهمية الهطول، في العرف السائد، في تنظيفه للشوارع (هذا المعروف وكلما كان أغزر كانت الشوارع أنظف)، يكون كلام التنظيف، في مدنٍ شوارعها مطبات وجور، مضحكاً كما في القامشلي ومدن الجزيرة، وبُعيد الهطول نرى واقعاً آخر غير النظافة التي نعرفها؛ واقعاً مغايراً يعكس هذه المقولة، فما نراه برك مياه ممزوجة بالطين والوحل تملأ الطرقات، وبين البركة والبركة بركة، بسبب انسداد الفوهات المطرية كثيراً، وتعطُّلها وعدم تصريفها مياه الأمطار، لنلاحظ المشكلة تبدأ بالمدخل الغربي لمدينة القامشلي الذي تمّ توسيعه من طرفيه بإزالة المنازل، ولكن بقيت الأتربة والطين وبقاياها لتتحوّل في الشتاء إلى لوحة طينية تستقبل كلّ القادمين من جهة مدن عامودا والدرباسية ورأس العين، والكثافة السكانية للحي والحركة المستمرة حوّلتا المنطقة تلك إلى مستنقع طيني، وأوجبت على كثير من أبنائها تغيير السكن، أو إيجاد بدائل «كالجزمات الطويلة للطلبة».
والأمر لم يقتصر على مدخلها الغربي، فمن المدخل الشرقي من جهة مدن المالكية والرميلان، تحوّلت التلال وبقايا الخانات المحيطة به إلى جور ومطبات، والموضوع لا يقتصر على المداخل وأطراف الأحياء؛ بل في وسط المدينة (الوسطى وشارعي القوتلي والوحدة)، فلا تجد شارعاً إلا وتوحّلت أرضيته والرصيف، أو بقاياه، ولعلّ السبب كثرة الشوارع الفرعية غير المعبّدة في الأحياء حيث تنقل أوحالها مع حركة وكثافة السيارات إلى كلّ مكان في المدينة عبر عجلات السيارات.
شوارع ومناطق في عالم آخر
في العديد من الأحياء غير المنظمة أصلاً، تنقطع الشوارع تماماً، فلا سيارات أو «سرافيس» أو «تكاسي» تصل إلى هناك، نتيجة الطين وبرك الماء، كأحياء (قناة السويس وجرنك الكبير والصغير والعنترية وحول الحزام وحارة الطي والهلالية والحي الغربي وغيرها)، وهذه الأوضاع، التي تنعكس بداية على تنقل الطلاب والمعلمين والأهالي إلى مدارسهم في تلك الأحياء، لنجد مدارسَ يضع طلابها ومعلموها الحجارة في البرك جسراً للعبور عند مداخلها، أو في الأحياء، وما يزيد خطورة كثافة الهطول المطري في هذه الأحياء كون غالبية المنازل مبنية من اللبن والطين أصلاً، ما يجعلها تتأثر بصورة أشد من المنازل الإسمنتية.
بين بنيين يتقلّب المناخ في الجزيرة
من الغبار إلى الطين.. هكذا يتعرّض سكان الجزيرة ومدنها إلى عواصف غبارية تعكّر صفو الحياة وتلوّنها بألوان بنية وحمراء (يخبرها سكان المنطقة الشرقية) صيفاً، ليتحوّل الغبار الصيفي إلى طين ووحل شتاءً، والأمطار، التي تكشف سوء الخدمات العامة (فوهات مطرية قليلة أو مغلقة، وتعرجات بالشوارع والإسفلت، وعمليات حفر، وجور ناتجة عنها، وغيرها) تؤدي إلى ما نراه الآن من مدن وقرى تلوّنت بالكامل باللون البني.
«رجل الطين» أو «رجل الوحل».. شخصية ارتبطت بتاريخ الطين في المدينة
ربما تعود بنا الذاكرة إلى قصص الحكايات العالمية، وتحديداً قصة رجل الثلج، لكنّ هذه القصة، وهي الحقيقية، هي لرجل الطين «حسو حريي/حسو الطين»، الذي يذكره سكان وأهالي القامشلي رجلاً طويلاً سمّي ،لحبه العمل بالطين والبيوت الطينية، بـ«حسو حريي»، الذي يعني بالكردية :«حسو الوحلي» أو «حسو رجل الوحل أو الطين»، حيث عرفه أهالي القامشلي رجلاً مساعداً، ومن المعروف أن البيوت الطينية القديمة (ومنها ما لا يزال موجوداً) تحتاج إلى «تصوينة» كلّ عام في شهر تشرين الأول وقبله، قبل قدوم فصل الشتاء، فكان يُقدّم «حسو حريي» خدماته وخبرته مع الطين لكلّ من يقوم بعمليات «التصوين»، وبالمجان، حتى عرف عنه لقبه الذي اشتهر به، وبقي عازباً ووحيداً وهو يقدّم خدماته تلك لأهالي مدينة أحبّته، فرسم عدداً من فنانيها شخصيّته بجلبابه و«شرواله» الكردي وكوفيته التقليدية، و«الجراب» الذي كان يحمله على كتفه، وفيه أدوات عملية «التصوين».
بيوت «الكلبيج» أو الطين واللبن ما زالت سائدة في القامشلي
و«الكلبيج» كتل طينية تصنع في قوالب خاصة نسميّها (كلپیچ) وهو قالب من الطين المجفف، وهو اللبن المعروف بعد حفر القليل من الأساس، وأحياناً دون أساسات، هكذا مباشرة فوق الأرض، وكانت تصنع اللبن (الكلبيج) وتترك حتى يزداد تماسكها، وكان يضاف إلى الخلطة الطينية كميات مناسبة من التبن وبقايا المحاصيل، وهذه القوالب تسمى «الكلبيج»، ويضاف إلى المخلوط كمية من الملح لزيادة التماسك، وسقوف البيوت الطينية تغطى عادة (بالمرديّاق)، وهو القرم الثخينة من أغصان الأشجار التي يوضع فوقها طبقة من الطين الممزوج بالقصب، ما كان يستدعي صيانتها كلّ عام، والصيانة تتم بعمل مخلوط من التراب الأحمر والتبن والماء والملح، تخلط بالأقدام عادة وتوضع على السقف وهي طرية، ومن عادة أبناء الجزيرة أن يتعاونوا في إتمام عملية سقف البيت، وكثيراً ما تتضرّر تلك الأسقف بفعل تساقط الأمطار والثلوج، فتوكف على رؤوس ساكنيها، ما يستدعي، عقب أول تساقط للأمطار في تشرين الأول، أن تتمّ صيانته ليقوى على تحمّل قسوة الشتاء، وكانت هذه الصيانة تتم عن طريق دحل هذه الأسقف بـ «مدحلة»، وهي عبارة عن قطعة من الحجر شبه المصقول مستديرة وطويلة نسبياً تكاد تزيد في طولها على نصف المتر، ولها في طرفيها ثقبان يوصل إليهما حبل مربوط بقطعة من الحديد تسمى (قيس) متى تمّ جرّه تتدحرج معه قطعة الحجر وتقوم بتسوية السطح وملء الثقوب التي أحدثتها أمطار الشتاء، وهذه العملية تؤدي إلى رصّ السقف وتمتينه، بحيث لا تنفذ منه مياه الأمطار، وكانت هذه العملية تُكرّر بعد كلّ شتاء تجنّباً لتسرّب الأمطار من الشقوق والأخاديد التي أحدثتها الأمطار الشتويّة السابقة.
أخيراً
رغم ارتباط الطين والوحل بتاريخ وتراث القامشلي، وما يُكتشف كلَّ عام من حفريات في مواقع أثرية مختلفة في الجزيرة تظهر العمق التاريخي لساكنيها واعتمادهم على مادة الطين مادة أساسية للبناء، لكنّ ما نراه حالياً في شوارع القامشلي ومدن الجزيرة ونلمسه من أثر تلك الأوحال على حياة الناس العامة يشير بوضوح إلى ضرورة وضع حدّ لهذه الظاهرة، وأن تتشارك الجهات المعنية وتهندس عملها (بلدية كهرباء مياه اتصالات طرق وغيرها) وأن تتم متابعة أعمالها، ولاسيما قبل استلام المشروع من المتعهدين، وما يتركه عادة من مخلفات وعدم إكمال أو تعبيد بدل الكلام وتبادل الاتهامات بين تلك الدوائر، والخاسر الفعلي هم الناس المتضررون من بقاء أطنان الطين والوحل وبرك الماء في كلّ شوارع المدينة، أما بعد التسلّم فليتمّ اللجوء إلى نسخة عصرية، أو حتى تقليدية من الكلبيج. همٌّ يتكرر كلّ عام، ولا من يردّ أو يحلّ هذا الموضوع نهائياً، ويعيد إلى القامشلي اسمها كحاضرة للجزيرة السورية؟!!.