Feb 26, 2011

إغاثة الملهوف.. ما الذي بقي.. ما الذي تغيّر في القامشلي؟




جريدة بلدنا

تغيّر الزمن.. تغيّر البشر.. إغاثة الملهوف.. صافرة إنذار يستنفر لها الجميع.. مع أخذ الحيطة والحذر!!
«يحكى أن عربياً كان يسير في طريق مقطوعة وسط الصحراء، وبينما هو على ظهر فرسه، شاهد رجلاً ملقىً على الأرض، يصرخ ويطلب المساعدة، نزل العربي عن ظهر فرسه مسرعاً لمساعدته، كعادة العرب؛ فما كان من الرجل الملقى على الأرض، إلا أن أشهر سيفه، وتحت السيف أخذ أمواله وفرسه ثمَّ همَّ بقتله.. فقال له الفارس العربي،
بالله عليك أطلب منك معروفاً، فقال الخائن ما هو؟ قال الفارس: بالله عليك لا تخبر القصة لأحد حتى لا ينقطع الخير والمعروف بين الناس...»
هي قصة تاريخية دلت على قيم وسلوكات تميزت بها مجتمعاتنا العربية عن سائر المجتمعات الأخرى، وتنبع عن عادات أصيلة من أهمها النخوة وإغاثة الملهوف وتقديم العون والمساعدة لعابري السبيل.. ولكن اليوم في ظل تطورات الحياة المعاصرة والتعقيدات التي طالت كل جوانبها، هل لاتزال هذه القيم حاضرة في وجدان الناس متحدّية كل الظروف.. أم أن طبيعة الحياة وسرعتها.. وحوادث الاحتيال التي يستغل من خلالها بعضهم نخوة مواطننا والتي نسمع عنها بين الحين والآخر، جعلت المواطن يفكر ألف مرة قبل أن يُقدم على مساعدة عابر السبيل.. ليسقط بذلك آخر معقل من معاقل الشهامة..

عند سؤال أهل القامشلي

- القامشلي.. الناس أسرة واحدة والثقة هي الأساس
صديقك تعرفه وقت الضيق, ومجتمعك تعرفه وقت الحاجة, وهو الأمر البيّن والواضح في القامشلي والجزيرة السورية ككل, فالتربية والتعاضد والتكافل الاجتماعي واضحة المعالم في القامشلي، وليس أدل على ذلك سوى ما تراه يومياً في مداخل كل مستشفيات المدينة الخاصة والعامة, فأي حادث يصل إلى المستشفى ترى أن غالبية المسعفين لا يمتون للجريح والمصابين بصلة باستثناء مصادفة مروره قربه, يقول الفني خليل حسو(عامل صحي) إن غالبية السيارات التي تقل المصابين بالحوادث هي سيارات خاصة ولأناس لا يمتون بصلة قربى للمصابين, وهو أمر يعرفه كل من يعمل في المستشفيات والعيادات, رغم ما قد يتعرض له لاحقاً من استجواب أو وجع رأس بحسب بعضهم, وتكون التجربة الفردية أدلُّ على معرفة هذه الواقعة, فقبل قرابة الشهر وأثناء سفري بين القامشلي ومدينة رميلان برفقة الأهل، توقفنا عند حادث سيارة قرب بلدة القحطانية مباشرة ووجدنا رجلاً لا يزال محصوراً بين المقود والكرسي وزوجته التي طارت من واجهة سيارته وحفيده كذلك, وفي الطرف الآخر سيارة مقلوبة, لم يكن منا إلا إن تحولنا كلنا وكل من حضر هناك إلى فريق عمل موحد بين من يقدم خدمة إسعافية أو يسحب المصاب, ويقوم آخر بخلع قميصه ويجعله شاشاً لسد وريد في رقبة الزوجة وخلال دقيقة كان الشارع يعج بعشرات السيارات المدنية المارة مصادفة، ليبدأ الجميع بتقديم ما يمكن, والأجمل كان هو ما فعلته شركة حفر نفط قريبة سارعت بعمالها وسيارة إسعافها وتحول العمال بملابس عمال النفط العاكسة إلى شرطة مرور لتنظيم السير طوعاً, فكان أن أقلت سيارة الإسعاف المصابين ورافقهم عشرات السيارات لمعرفة مصيرهم وتقديم ما يلزم وبدأت الاتصالات لمعرفة أقارب المصابين وتحريضهم على الإسراع قبلهم إلى المستشفى وتحضير غرفة الإسعاف والجراحين، وعند وصولنا إلى المستشفى, تقدم أكثر من عشرة شباب للتبرع بالدم, وهو ما أكدته القابلة نسرين الحسن من أنه بمجرد أن نشير إلى حاجتنا إلى الدم في أي مستشفى، يتقاطر العشرات طوعاً وأصلا لدينا مجموعات من الأسماء وفق الزمر الدموية، يسجلون أسماءهم في المستشفيات وأرقام هواتفهم إلى حين الحاجة. فالواقع الاجتماعي المبني على التعاضد والشهامة أسهم في تكاتف المجتمع عند كل محنة دون انتظار الشكر, أو التفكير في ما يمكن أن يحصل لهم بعدها.
رأي متخصص..
اتفق خبراء علم الاجتماع، على أهمية إغاثة الملهوف وعابر السبيل في المجتمعات العربية، حيث تتنامى هذه القيمة بشكل خاص في القرى والأرياف أكثر من المدن لاعتبارات اجتماعية وجغرافية ونفسية.. ويشير الدكتور عبود العسكري اختصاصي علم الاجتماع، إلى الأساس الديني لهذه القيم قائلاً: فجميع الأديان السماوية تدعو إلى المحبة وإغاثة الملهوف، وفي تراثنا العربي الإسلامي قاعدة فقهية تقول “إذا مرَّ عابر سبيل في قرية ولم يُستضف ولم يبيتوه ولم يطعموه، فإنَّ أهل القرية آثمون”..
وبشيء من التفصيل يعطي الباحث فرحان مرعي (علم اجتماع) منطقة القامشلي وريف الجزيرة خصوصية معينة، على اعتبارأن العلاقات الاجتماعية فيهما تمتاز بكونها متينة وأصيلة, فالمصاهرة تلعب دوراً كبيراً بين كافة الشرائح الاجتماعية, ولذلك يندر النصب والاحتيال في منطقة القامشلي وريف الجزيرة ..
وللمجتمع الحموي خصوصيته التي يوضحها وسيم الشيخ (مرشد نفسي واجتماعي) : المجتمع الحموي عموماً يعد من المجتمعات التي تحافظ على عاداتها وتقاليدها في إكرام الضيف وعابري السبيل وتقديم كل ما من شأنه تسهيل أمورهم وتلبية حاجاتهم وتحقيق ما يصبون إليه استناداً إلى التقاليد التي يواظبون عليها أباً عن جد..
إلا أن الدكتور الاجتماعي “العسكري” يظهر تخوفه من ما يسميه بـ “ زمن العولمة “ الذي يتوجه نحو صناعة شخصية فردية؛ فكل فرد له قيمه وهمومه الخاصة، وأصبحنا نسعى إلى أن نجعل من كل إنسان جزيرة معزولة. فصحيح نحن متجاورون مع بعضنا ولكن في جزر معزولة. وهنا تأتي مسؤولية النظام العالمي في إعادة التركيز على القيم ومسؤولية المؤسسات الدينية بأطيافها من خلال التنبيه المستمر للمجتمع على أن ينتبهوا إلى أنَّ فقدان هذه القيم سيؤدي إلى مجتمع غير مترابط.

No comments:

Post a Comment