Jun 19, 2011

سعيد يوسف صاحب "أصابع زي الحرير": البزق آلة مهملة.. وتراب القامشلي مجبول بدمي


عندما أظهر سعيد يوسف (يافعاً) براعة غير عادية في عزفه على آلة البزق وجد عيوناً كثيرة تنظر إليه بدهشة، «الأمر» الذي استدعى يومذاك من العائلة أن تمارس عليه أشكالاً من التضييق ـ تبعاً للذهنية المجتمعية السائدة - وتحديداً والدته (خوفاً عليه من أن يصاب بالعين) وستذهب نسوة الحي إلى أبعد من ذلك إذ يهمسن في أذن أم سعيد: «اعمليلو حجاب يعمي عيون الناس عنه» ولم يغادر سعيد يوسف بعد القامشلي مدينة الحب الوادعة التي ما أن يفتح أبناؤها عيونهم حتى يجدوا آلة البزق تتصدر جدران منازلهم باحتفائية تصل إلى ما يشبه «القداسة».

سعيد يوسف الذي « يملك أصابع زي الحرير» على حد تعبير الموسيقار محمد عبد الوهاب تعود فيه الذاكرة في لقاء مع «الوطن» إلى البدايات ويروي أنه عندما كان صغيراً وذات يوم تناقل أهالي المدينة حكاية آلة الطنبورة فريدة الشكل والطراز لم يسبق لهم أن رأوا مثلها جاء بها رجل تركي حط رحاله في المدينة في طريقه إلى العراق حيث يأخذ الطنبورة - غريبة الشكل – هدية إلى رجل تركماني هناك فتملكت يومها سعيد يوسف العازف اليافع رغبة جامحة في أن يقتني تلك الآلة فاصطحبه والده حيث يمكث الرجل التركي وينجح أبو سعيد بعد مفاوضات وإقناع في شراء الآلة بثمن ليس بقليل ويصبح منزل أبو سعيد مقصداً للأصدقاء والأقارب والمهتمين حيث تبدأ جلسات العزف والاستمتاع ويلمع نجم سعيد يوسف وخاصة أنه يمتلك أيضاً موهبة الغناء الشعبي الجزراوي المحبب.
في عام 1968 تطلب إذاعة بغداد المسموعة هناك عازفين ويذهب سعيد لتستضيفه الإذاعة وتسجل له عدداً من المقطوعات في أسطوانة، لكن انطلاقته الحقيقية ستكون في بيروت إذ يلقى العازف الشاب إعجاباً ودعماً من عماد فريد الممثل والمذيع ذائع الصيت آنذاك وتستضيفه قنوات لبنانية ويتعرف إلى الفنانة سميرة توفيق إذ تغني من كلماته وألحانه، لكن الدعم الأكبر سيجده يوسف من الإعلامي الكبير رياض شرارة، وفي لبنان أيضاً يتعرف إلى فريد غصن (أستاذ فريد الأطرش) ونجيب حنكش (صاحب سلسلة كتاب حنكشيات) ومن استديو الفن في لبنان يسطع نجم سعيد يوسف، ويسجل في السبعينيات لإذاعة دمشق.. وتبدأ رحلة سفره - وشهرته - إلى أوروبا حيث يعتلي هناك مسارح كبرى ويجد احتضاناً خاصاً في فيينا ويلفت الفنان والعازف السوري سعيد يوسف الأنظار إذ يعزف أيضاً مع الراحل الفنان الكبير منير بشير (ثنائية بزق - عود) في أكثر من بلد ومناسبة.
سعيد يوسف يتحدث بإعجاب - وعرفان - عن مسيرة الفنان الراحل أمير البزق محمد عبد الكريم الذي أوصى أن ينتقل بزقه إلى سعيد يوسف قائلاً: «لا تموت آلة البزق وفي سورية فنان عازف اسمه سعيد يوسف».
ما يقلق يوسف حالياً هو تراجع آلة البزق في سورية والمنطقة لذلك بادر إلى التحضير وحضور ملتقى البزق الذي احتضنه دار الأوبرا السورية السنة الفائتة بجهود من منسق الملتقى الإعلامي ادريس مراد، معتبراً الملتقى خطوة جيدة لكنها غير كافية إذ يجلس عازفو البزق في بيوتهم في أوضاع مادية مجحفة ومبادرات احتضان لا تكاد تذكر.
ويقول سعيد يوسف إنه يعيش من عزفه لكونه كثير السفر، ولكونه أيضاً مطرباً شعبياً له جمهور عربي واسع، لكنه اليوم بات يخشى ركوب الطائرات من كثرة السفر، ويبدي انزعاجاً شديداً من الاهتمام الكبير بالآلات الغربية التي يراها دخيلة إلى الفن في سورية على حساب البزق الآلة التي تأتي أساسية في «التخت الشرق» ويقول سعيد يوسف (الذي غنى من ألحانه وكلماته: شيفان برور، شيرين، الفرنسي جوني أوبير والتركيان علي شان، وإينور دوغان، إلى جانب سميرة توفيق وآخرون..) وقد يكون هو العازف الثاني في سورية ولكن من العازف الأول؟!!
ويلفت سعيد النظر إلى آلة «البزق الهائلة في إمكاناتها والتي لا يصعب عليها شيء وتدخل شغاف القلب، والوحيدة القادرة على إحياء السهرات وحدها عبر صوتها النافذ والعذب المختلف عن بقية الآلات بما فيها العود التي تنحدر من عائلة البزق وليس العكس».
وعن القامشلي يتحدث سعيد يوسف بحب جارف عن مدينته الأثيرة إلى قلبه «دمي مجبول بترابها» داعياً إلى رعاية المواهب التي تعج بها تلك المدينة إلى جانب الحسكة والمدن السورية، موجهاً العتب واللوم إلى الإعلام وإلى وزارة الثقافة التي تنفق الملايين على السينما ومهرجاناتها على حين يمكن لها أن تنهض بآلة البزق وباقي الآلات الموسيقية بعشر تلك المبالغ، ويؤلمه أن فناناً بحجم وقامة محمد محسن يرحل ولا تلتفت إليه جهات رسمية أو إعلامية «توفي ولم يسمع به مسؤول أو صاحب مطبوعة» ويؤكد سعيد يوسف العازف الفارس والفنان المخضرم الكبير أنه لا يمكن أن يترك الفن والعزف رغم الإهمال وعدم المبالاة الذي تتعرض له آلة البزق، لكنه لا ينفي تفكيره الجدي بأن يفتح محلاً تجارياً يعتاش منه إلى جانب الفن!!

جريدة الوطن السورية

No comments:

Post a Comment